لماذا نصدق كل شيئ نسمعه؟

في زمن قديم ولى وراح اهتم المسلمون بعلم الاسانيد الذي يعنى باختصار بالتعرف وبتتبع الاشخاص الذين جاؤوا بمعلومة معينة ونسبوها للرسول عليه افضل الصلاة واتم التسليم. وبما أن الرسول عليه افضل الصلاة واتم التسليم لا ينطق عن الهوى فقد اهتم المسلمون في الماضي بتنقيح كل ما نسب اليه عليه الصلاة والسلام بغرض التأكد من صحة نسبتها اليه من عدمه وكان هذا عن طريق التساؤل والتأكد من سلسلة الرواة الذين سمعوا هذه الرواية عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ولهذا تجد البعض يهتم عند كتابة الحديث أن يذكر السند كاملا فيقول (قال فلان أنه سمع فلان أنه سمع فلان أنه سمع رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول كذا وكذا).

وقد وضع المسلمون درجات مختلفة لصحة الاحاديث بحسب تقييم هذا السند فهناك الحديث الصحيح وهناك الحديث الحسن وهناك الحديث الضعيف وغيره وكل هذا كان بناء على تقييم لاخلاق وسلوك كل ما جاء في سلسلة الرواة بل تقييم عما ان كان هناك فعلا تواصل حاصل بين اعضاء السلسلة فلو قيل أن عبدالله سمع خالدا فعلماء الحديث يبحثون عما إن كان هناك فعلا علاقة بين عبدالله وخالد وأنهم عاشو في نفس الفترة ونفس المنطقة قبل أن يقرروا صحة السند. ولم يكتف المسلمون بالتاكد من صحة السند فهناك من علماء المسلمين من ذهب لابعد من هذا وتحدث عن ضرورة صحة المتن (مضمون الحديث) وعدم تعارضه مع النصوص الثابتة الأخرى من القرآن والسنة.

حرص كبير جدا نتج عنه علم من العلوم يكاد ينفرد به المسلمون الأوائل من بين شعوب العالم وأقول الأوائل لأننا اليوم نكاد أن نكون أبعد ما يكون عن أساسيات ذلك العلم في حياتنا العامة فيكفي احيانا لأي شخص أن يسرد معلومة معينة لتجد العشرات من الرسائل الالكترونية والبريدية التي تنقل هذا الخبر بين الناس على أنه فعلا خبر صحيح بدون ادنى اهتمام للتعرف على مصدر الخبر ومدى مصداقيته ومدى علاقته اصلا بمحتوى الخبر فهل المصدر هو الشخص المعني بالخبر أم هو شخص لا علاقة له بمضمون الخبر؟ هل المصدر هو شعور شخصي وتخمين ووجهة نظر لدى كاتب الموضوع أم أن المصدر هو فعلا الشخص المسؤول عن الفكرة التي يتضمنها الخبر؟

لا اود الخوض بشكل اكبر في شرح الفكرة لأني اعتقد أنها واضحة،واعتقد أن تجربة الحياة تشير لوجود الكثير ممن يحبون اثارة الشائعات ويحبون التجني على الآخرين بقصد وغير قصد كما أن هناك الكثير ممن يحملون اهدافا شخصية ويهمهم تشويه صورة فلان أو علان أو التحريش بين الناس ولهذا صار من المهم جدا في نظري أن يكون هناك ضوابط نقوم بناء عليها بتقييم الاخبار لكي نتروى في الأمور قبل الحكم عليها بشكل سريع.

وهذه مجرد خواطر اتمنى أن يشاركني فيها من له اهتمام بهذا الموضوع لنضع اسسا وقواعد ينبغي من وجهة نظرنا ان نتبعها عندما نسمع خبرا معينا قبل أن نجزم تمام اليقين بأن الخبر صحيح أو لا/

 

  • تأكد من أن الخبر يحوي المصدر: بعض الاخبار تسرد خبرا معينا بدون أن تقول مصدره، أو يدعي كاتب الخبر احيانا بأنه هو المصدر للخبر ولابد في نظري من أن تتأثر مصداقية أي خبر في حالة عدم ذكر المصدر الذي جاء منه الخبر ولكن اشعر أحيانا بأن بعض الناس يصدقون كل ما يسمعون ويحملونه محمل الجد وكأنه فعلا صحيح.
  • اذا ذكر المصدر في الخبر فقم بتقييم المصدر: هل المصدر المذكور معني بالأمر وله صلة مباشرة به أم لا؟ وهذه امثلة لما اقصده لايضاح الموضوع
    • الشيخ الفلاني أو الشخص الفلاني قال كذا وكذا: ما هو مصدر هذا الادعاء؟ هناك فرق بين أن يكون مصدر الادعاء هو موقع خاص بالشيخ أو الشخص نفسه وبين أن يكون مصدر الادعاء أن فلانا من الناس سمعه أو فلانا من الناس نقل هذا عن الشيخ أو الشخص المعني. موقع الشيخ والشخص هو مصدر مباشر، لكن فلان من الناس يعني بأن المصدر هو فهم فلان من الناس لما قاله الشيخ وتصبح المسألة ماهي مصداقية فلان من الناس هذا؟ هل عرف عنه الصدق والدقة في نقل اقوال الناس أم أن مصداقية فلان من الناس مجهولة اصلا؟ الغريب بأن فلانا من الناس يكون صاحب معرف انترنتي مجهول اصلا وغير معروف الهوية وبالرغم من هذا يتم تصديقه احيانا بشكل مباشر وبدون تدقيق!
    • صرح المسؤول الفلاني بكذا وكذا: هل صرح المسؤول بهذا الأمر من خلال بيان صحفي تم نشره في الصحف وعلى موقع الجهة المسؤولة (مصدر مباشر)؟ أم أن الخبر يسرد فهم الصحفي والمراسل لتصريح شفهي ذكره المسؤول (مصدر غير مباشر)؟
    • علاقة المصدر بالخبر: هل مصدر الخبر هو فعلا جهة معنية بمحتوى الخبر أم لا؟ احيانا يأتيك شخص من وزارة معينة أو ادارة معينة ويذكر خبرا عن وزارة اخرى أو ادارة اخرى أو جهة اخرى لا علاقة له بها بتاتا! لا يعني أن الخبر يكون كذبا بالضرورة لكن في هذه الحالة لابد من ايضاح لعلاقة المصدر بالمسألة المعنية فمن غير المعقول أن اصدق طالب يقول مثلا بأن برنامج خادم الحرمين للابتعاث انتهى بدون أن يذكر مصدرا رسميا له علاقة بالموضوع، فحتى لو خرج مدير جامعة معينة بهذا الادعاء فلابد من التساؤل من أين لمدير الجامعة هذه أو تلك أن يعرف بهذا القرار لأنه خارج نطاق صلاحياته. وهذه نقطة تجدها في المنتديات بشكل كبير، يأتيك شخص بمعرف مجهول واسم مجهول لا تعرف إن كان طالبا في المتوسطة أو موظف رسمي مسؤول ويكتب خبرا معينا يقول فيه (سمعت من مصادر موثوقة) ويصدقه الناس ويتناقلون الخبر وكأنه من المسلمات وشتان بين مثل هذه الممارسة وبين ما كان يفعله المسلمون الأوائل.
  • بعد التأكد من المصدر دقق في متن الخبر: قد يكون المصدر موجود وموثق وله علاقة مباشرة بالموضوع لكن المسألة تكون بأن ناقل الخبر يدعي بأن الجهة المعينة أو الموظف المعين قال كذا وكذا، في هذه الحالة تنتقل لتقييم متن الخبر ومحتواه.
    • هل الخبر يتلائم مع المواقف السابقة للمصدر أو النظام السائد الذي يعمل من خلاله المعني بالخبر أم أن النظام السائد في جهة والخبر في جهة اخرى؟
    • ما هو المنطق الذي استند عليه المتن وهل يتلائم المنطق المستخدم مع نتيجة الخبر؟
    • لو كانت المسألة معنية بتجربة علمية، فهل تم نشر التجربة في مجلات علمية متخصصة؟ أم أن الخبر يقول (اجريت دراسات كثيرة ثبت منها كذا وكذا) بدون الخوض في طبيعة الدراسات والعينات الماخوذة ولا حتى مصادر الدراسات والجهات التي قامت بهذه الدراسات؟
    • هل الدراسة قائمة من جهة محايدة غير مستفيدة من نتائجها أم أن الجهة التي قامت بالدراسة هي المستفيدة من أن تخرج نتائجها على هذا النحو؟ بمعنى هل مصدر خبر أن الجوالات لا تؤثر على الدماغ مثلا هو شركة هواتف نقالة؟ أم جهة محايدة؟ لو كانت جهة محايدة، فمن الذي قام بتمويل الدراسة هل هي شركة جوالات أم مركز ابحاث علمية مستقل؟
    • اذكر مثالا على ضرورة التدقيق في متن الخبر هو من السيرة حيث جاءت احدى الصحابيات بحديث الافك عن السيدة عائشة رضي الله عنها وذكرته أمام زوجها (أي أن المصدر موجود). فسأل الزوج زوجته (هل كنتي ستقومين بهذا الأمر؟) فقالت الزوجة (لا) فقال لها زوجها (فعائشة افضل منك ولذا فلو أنك لا تفعلينها فعائشة ايضا لا تفعلها لأنها افضل منك) بمعنى أن الزوج جاءه خبر من مصدر لكنه فكر في متن الخبر ورفضه لأن المتن غير معقول ولا يتلائم مع المواقف التي عهدها من السيدة عائشة. بمعنى أن ذكر المصدر لا يكفي لتصديق الخبر.

 

 

هذه مجرد خواطر شخصية حول وسائل ونقاط يمكن استخدامها عند سماع الاخبار لتقييم صحتها وتقييم مضمونها قبل الحكم بصحتها عسى أن تجد من يعدل فيها أو يضيف افكارا جديدة عليها

About نزيه العثماني 104 Articles
دكتوراة هندسة كهربائية طبية وأسعى للتميز في البحوث التطبيقية وبراءات الاختراع وتوطين التقنية بمجالي ومهتم بدعم الإبداع والموهبة وأساليب التعليم الفعالة وبناء قيادات المستقبل

6 Comments

  1. موضوع جدا هادف وله غاية سامية في كيفية التحري ورصد الحقائق بين السامع والمسموع والناقل والمنقول

    شكرا لك للتوضيح نقاط معينة

  2. ماشاء الله .. وكأنك تقرأ ما في خاطري يا دكتور .. جزاك الله خير على طرح الموضوع .. وبصراحة أنا اتفق معك على التحليل المتكامل الذي أجريته على عملية توثيق المعلومة .. بس هل من الممكن إنه الشخص يعمل على توثيق الخبر بهذه الآلية بدون أن تكون طبيعته مبنية على هذه الأسس ..

    أنا أعتقد – والله أعلم – أن البشر ذو الطبع الخاص بـ حل المشاكل (Problem Solving) هم الذين يفكرون بالآلية التحليلية التي شرحتها .. وهي في الحقيقة تعكس طبيعتي أنا الشخصية في التعامل مع الأخبار المنقولة على الألسنة .. وكنت متصوّر إنه محللي الأنظمة هم الذين يفكّرون بهذه الطريقة .. ولكن الصح هو – وبما أن التحليل هو جزء من المنظومة الرياضية الخاصة بفهم المشكلة – أن البشر الذين من طباعهم حل المشاكل بعد تحليلها هم بالأصح أقرب لهذا التصرّف من غيرهم .. ويعتبر – في الغالب – هو جزء من طبع البشر ..

    هل بالإمكان تأصيل الآلية في النفوس التي لا تتقنها بطبعها؟ – هل علينا تمرينهم على هذه الآلية .. أم يجب أن يحمل الشخص – الغير مدرّب على تدقيق الخبر بهذه الطريقة – معه قائمة (Check-List) بالأمور التي عليها التحقق منها؟

    ما هي في رأيكم أفضل طريقة لتعويد الناس على التدقيق في الأخبار؟

    مجرد تساؤلات في ذهني يا دكتور .. ليس إلاّ!

    🙂

  3. اعتقد يا سلمان أنه بالامكان تدريب الناس على هذه الميكانيكية من خلال تمرينين بسيطين عادة ما اقوم بهما في الدورات التي اقدمها هنا وهناك،

    التمرين الأول هو أن يسأل كل منا نفسه (كم مرة ذكرك أحدهم بمقولة قلتها أنت وفوجئت بأن ما قلته يختلف تماما عما قصدته؟)

    بمعنى أنك قلت امورا معينة لكن الناس فهمتها بطريقة مختلفة وعادة ما تكون نسبة من تعرض لهذا الأمر اكثر من 80% من الحضور وهي نتيجة عادة ما تذهل الحاضرين. الشاهد في هذا التمرين هو أن يتذكر كل منا شعوره الشخصي وأسفه على الفهم الخاطئ للناس لحديثه كلما سمع كلاما لم يعجبه من فلان من الناس. فربما يكون السماع صحيحا لكن المشكلة هي في الفهم. والشاعر يقول

    وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم

    التمرين الثاني هو لعبة قديمة معروفة يجلس فيها المشاركون في دائرة ويبدأ احدهم بهمس كلمة في اذن من يجلس بجواره فيقوم هو بدوره بهمسها في اذن من يليه وهكذا إلى أن تكتمل الدائرة عند آخر شخص الذي يتوجب عليه أن يقول الكلمة بصوت عالي لتتم المقارنة بين الكلمة الأصلية وبين آخر كلمة تم سماعها. ونادرا ما تكون الكلمة الآخيرة متطابقة مع الكلمة الأولى وهذا يدل على أهمية سماع الخبر من المصدر نفسه لأن كثيرا ما تضم اضافة التوابل والبهارات على الأخبار عند نقلها والشاعر يقول

    أقولها عمر فيسمعها زيد ويقولها بكر وتصبح محمدا

    هناك امثلة من السيرة لهذه التطبيقات مثل قول سيدنا عمر “استمح لأخيك ثمانين عذرا عند سماعك ما لا يعجبك فإن لم تجد اعذارا فقل عسى لأخي عذر لا أعرفه” وهناك ايضا ذلك الشخص الذي دخل على سيدنا عمر يشكو أن فلانا من الناس فقأ عينه فطلب منه سيدنا عمر أي يحضر ذلك الشخص، فسأل الصحابة سيدنا عمر ” ألم تر كيف فقأ عينه؟ ما الداعي لطلب الشخص الآخر” فقال سيدنا عمر “وماادراني ربما قام هذا الرجل بفقئ كلتا عيني الآخر”

    وهناك ايضا قصص كثيرة من سيرة الرسول عليه السلام تبين منهجه في التثبت وعدم الاستعجال في اطلاق الاحكام

    بشكل عام، كل هذه امثلة اعتقد أنها تساعد الشخص على أن يقوم بالتفكير في الموضوع وهذا هو المهم، تحفيز التفكير، أما النتائج فهي مربوطة بكل شخص وطريقة تفاعله مع التفكير

    شكرا لمرورك

1 Trackback / Pingback

  1. برنامج الكورت لتعليم التفكير للمبدع إدوارد ديبونو – مدونة نزيه العثماني

Leave a Reply

Your email address will not be published.


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.